حق العدل والمساواة والبر والإحسان:
[ltr]أقام الإسلام المجتمعَ على دعائم قوية ثابتة، ومنها: العدل بين الناس على اختلاف أجناسهم وطبقاتهم، والعدل صفة خُلُقيَّة كريمة، تعني التزام الحق والإنصاف في كل أمر من أمور الحياة، والبُعْد عن الظلم والبغي والعدوان، والعدلُ في الإسلام هو مما يُكمِّل أخلاق المسلم لما فيه من اعتدال واستقامة وحب للحق، وهو كذلك صفة خُلُقيَّة محمودة تَدُل على شهامةِ ومروءة مَن يتحلَّى بها، وعلى كرامته واستقامته، ورحمته وصفاء قلبه؛ قال تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ ﴾ [النحل: 90]، وقال تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ ﴾ [النساء: 58]، يقول ابن القيم: "فإن الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدل كلها، ورحمة كلها، ومصالح كلها، وحكمة كلها، فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور، وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث، فليست من الشريعة، وإن أدخلت فيها بالتأويل[، وقد ورد في الحديث الشريف قوله صلى الله عليه وسلم: ((تَعدِل بين اثنين صدقة))، والإسلام يربأ بالمسلم عن الوقوع في أي لون من ألوان الظلم، فالظالم مطرود من رحمة الله، ولقد أوعد الله - سبحانه وتعالى - الظالمين بأشد العقوبات؛ قال تعالى: ﴿ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ ﴾ [هود: 18]، وقال تعالى: ﴿ وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ ﴾ [إبراهيم: 42]، كما تَضمَّنت السُّنة النبوية الشريفة مجموعة من الأحاديث التي تُقِرُّ العدل وتُحرِّم الظلمَ، منها: قوله صلى الله عليه وسلم لأصحابه رِضوان الله عليهم: ((اتقوا الظلم؛ فإن الظلم ظلمات يوم القيامة))، ويقول الرب - عز وجل -: ﴿ لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ﴾ [الممتحنة: 8]، هذه آية من كتاب الله العزيز تأمر بالتعامل بالحسنى والمعروف والعدالة والإنصاف مع كل شخص لم يُعادِ المسلمين، أيًّا ما كانت عقيدته، ومن هذه الآية وجبت حقوق كثيرة لغير المسلمين على المسلمين، والعدل اسم من أسماء الله الحسنى، وكما يقولون: "العدل أساس الملك"، فالعدل والإنصاف حقٌّ أوجبه الإسلام على أتباعه تُجاه الآخرين من غير المسلمين أيًّا ما كانت عقيدتهم، وأيًّا ما كان سلوكهم وتَعامُلهم معهم، يقول الرب تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴾ [المائدة: 8]، يقول الأستاذ رشيد رضا في تفسيره "تفسير المنار": أي ولا يكسبنكم ويحملنكم بُغْض قوم وعداوتهم لكم، أو بُغْضكم وعداوتكم لهم، على عدم العدل في أمرهم بالشهادة لهم بحقهم إذا كانوا أصحاب الحق، ومثلها هنا الحكم لهم به، فلا عُذْر لمؤمن في تَرْك العدل وعدم إيثاره على الجور والمحاباة، بل عليه جعله فوق الأهواء وحظوظ النَّفْس، وفوق المحبة والعداوة مهما كان سببهما، فلا يَتوهَّمنَّ مُتوهم أنه يجوز تَرْك العدل في الشهادة للكافر، أو الحكم له بحقه على المؤمن.[/ltr]
ولم يَكتفِ بالتحذير من عدم العدل مهما كان سببه والنية فيه، بل أكَّد أمره بقوله: ﴿ اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى ﴾ [المائدة: 8]؛ أي: قد فَرضتُ عليكم العدل فرضًا لا هوادة فيه، ﴿ اعْدِلُوا هُوَ ﴾ أي: العدل المفهوم من "اعدلوا"، أقرب لتقوى الله; أي لاتقاء عقابه وسخطه باتقاء معصيته، وهي الجور الذي هو من أكبر المعاصي؛ لما يتولَّد منه من المفاسد.
وقال البيضاوي: "لا يَحمِلنَّكم شدة بغضكم للمشركين على ترْك العدل فيهم، فتعتدوا عليهم بارتكاب ما لا يَحِل، كقَذْف وقَتْل نساء وصبية، ونقْض عهد؛ تشفِّيًا مما في قلوبكم، ﴿ اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى ﴾؛ أي: العدل أقرب للتقوى، صرَّح لهم بالأمر بالعدل، وبين أنه بمكان من التقوى بعدما نهاهم عن الجور، وبيَّن أنه مقتضى الهوى، وإذا كان هذا العدل مع الكفار، فما ظنُّك بالعدل مع المؤمنين؟".
وقال ابن كثير: "ومن هذا قول عبدالله بن رواحة رضي الله عنه لما بعثه النبي صلى الله عليه وسلم يَخْرُص على أهل خيبر ثمارَهم وزرعهم، فأرادوا أن يَرْشُوه ليَرفُق بهم، فقال: والله لقد جئتكم من عند أحب الخَلْق إليَّ، ولأنتم أبغض إليَّ من أعدادكم من القردة والخنازير، وما يحملني حبي إياه وبغضي لكم على ألا أعدل فيكم، فقالوا: بهذا قامت السموات والأرض".
والإسلام دين العدل والتسامح والتعايش بين بني البشر، والتعاون على البِرِّ والتقوى، ولا يَنهى عن الإحسان إلى الناس مهما اختلفت أديانهم وألوانهم وأوطانهم، ويَصون كرامة الإنسان وحريته في الاعتقاد، والعيش الحر الكريم، فهذا رسول الله في جماعة من أصحابه وأنصاره، وهم مائة وثلاثون رجلاً، يُصيبهم الجوع، وقد مسَّت الحاجة إلى الطعام، يَمُر بهم رجل مُشرِك، فيتعامل النبي صلى الله عليه وسلم معه معاملة حسنة، ويشتري منه شاةً بثمنها، ولا يُكْره الرجل على أن يتنازل عن الثمن أو يُخفِّف منه، والقوة كانت متوافرة لدى النبي صلى الله عليه وسلم، والحاجة كانت شديدة، والرجل كان كافرًا، ولكن محمدًا صلى الله عليه وسلم كان مطبوعًا على العدل، ومجبولاً عليه، ومأمورًا به ﴿ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ ﴾ [الشورى: 15]، وبالمقابل منه نرى الجيوش الاستعمارية المحتلَّة بلاد الإسلام والمسلمين في هذه الأيام قد حوَّلت البِقاعَ الآمنة إلى أتون الحرب والشر؛ فلا يُراعون حُرمةً، ولا يحفظون حقًّا، بل يَعيثون في الأرض فسادًا.
هذا عمر بن عبدالعزيز - رحمه الله - يأمر مناديَه أن يُنادي: ألا من كانت له مظلمة فليرفعها، قام إليه رجل ذمي من أهل حمص فقال: يا أمير المؤمنين أسألك كتاب الله، قال: وما ذاك؟ قال: العباس بن الوليد بن عبدالملك اغتصبني أرضي، والعباس جالس، فقال له عمر: يا عباس، ما تقول؟ قال: نعم، أقطعنيها أمير المؤمنين الوليد وكتب لي بها سجلاً، فقال عمر: ما تقول يا ذمي؟ قال: يا أمير المؤمنين أسألك كتاب الله تعالى، فقال عمر: نعم، كتاب الله أحق أن يُتَّبع من كتاب الوليد، قم فاردُد عليه ضيْعتَه فردَّها عليه,
هذا هو العدل والإنصاف الذي حبَّب الإسلام والمسلمين إلى غير المسلمين، ومكَّنه من قلوبهم، وجعل حُكمَهم أحبَّ إليهم من غيرهم، كما كتب النصارى في الشام سنة 13هـ إلى أبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنه يقولون: "يا معشر المسلمين، أنتم أحب إلينا من الروم وإن كانوا على ديننا؛ أنتم أوفى لنا، وأرأف بنا، وأكف عن ظُلْمنا، وأحسن ولاية علينا"
اشتكى يهودي عليًّا إلى عمر رضي الله عنهما، وكان جالسًا بجانبه، فقال له عمر: "قم يا أبا الحسن، قف بجانب اليهودي موقف القضاء"، وبعد تبرئة علي باعتراف اليهودي، لاحظ عمر على وجه عليٍّ تَغيُّرًا، فقال له: "أوَقد ساءك أني أوقفتك بجانب اليهودي موقف القضاء"، فقال علي: "لا، وإنما خشيت ظنَّ اليهودي مُحاباتي عليه؛ لما ناديته باسمه، وناديتني بيا أبا الحسن"، وهذا عمر رضي الله عنه أيضًا يقول في رسالته إلى أبي موسى الأشعري يوصيه: "ساوِ بين الناس في وجهك وعدلك ومجلسك؛ حتى لا يطمع شريف في حيفك، ولا ييئس ضعيف من عدلك".
في ضوء هذه النماذج الخالدة للتعامل الحَسَن مع غير المسلمين، القائم على البِرِّ والقِسْط والإحسان، نستطيع أن نُدرِك ما شرع الإسلام من حقوق وواجبات، ألزم المسلمين القيام بها نحو إخوانهم المواطنين غير المسلمين، لقد سوَّى الإسلامُ بين المسلمين وغيرهم، فأعطى للذميين في المجتمع الإسلامي نَفْس الحقوقَ التي للمسلمين، وحُقَّ لهم أن يعيشوا آمنين على أنفسهم وعلى أموالهم وعلى أعراضهم، بل ويتمتَّعون بالبرِّ والإحسان، وفي ذلك يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((لهم ما لنا، وعليهم ما علينا))، ويقول صلى الله عليه وسلم: ((مَن قذف ذميًّا، حُدَّ له يوم القيامة بسياط من نار))، ((مَن آذى ذميًّا، فإني خَصْمه، ومن كنتُ خصمَه خصمتُه يوم القيامة))، يقول عبدالله بن عبدالمحسن التركي: تُعَد المساواة بين الناس على اختلاف الأجناس والألوان واللغات مبدأ أصيلاً في الشرع الإسلامي، ولم يكن هذا المبدأ على أهميَّته وظهوره، قائمًا في الحضارات القديمة، كالحضارة المصرية أو الفارسية أو الرومانية، إذ كان سائدًا تقسيم الناس إلى طبقات اجتماعية، لكل منها ميزاتها وأفضليتها، أو على العكس من ذلك، تَبَعًا لوضعها الاجتماعي المتدني، وكانت التفرقة بين البشر في المجتمعات القديمة، تَستنِد إلى الجنس واللون، والغنى والفقر، والقوة والضعف، والحرية والعبودية، وكانت طبقة الحكام ورجال الدين من الطبقات المميزة، بل إن بعض المجتمعات، مثل المجتمع الهندي، كان يعرف طائفة المنبوذين، وكان مُحرَّمًا على أفراد الطبقة أن ينتقلوا منها إلى طبقة أعلى، حتى ولو كانت ملكاتهم تُتيح لهم ذلك, وهذه المساواة بين الناس تتمثَّل في قول النبي صلى الله عليه وسلم واضحة بيِّنة: ((إن الله - عز وجل - قد أذهب عنكم عُبِّيَّة الجاهلية وفخرها بالآباء، مؤمن تقي، وفاجر شقي، أنتم بنو آدم، وآدم من تراب، ليَدعنَّ رجال فخرهم بأقوام إنما هم فحمٌ من فحم جهنم، أو ليكونن أهون على الله من الجِعْلان التي تدفع بأنفها النَّتَن) ، روى أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كنا عند عمر بن الخطاب رضي الله عنه، إذ جاء رجل (قبطي) من أهل مصر، فقال: يا أمير المؤمنين، هذا مقام العائذ بك، قال: وما لك؟ قال: أجرى عمرو بن العاص بمصر الخيلَ، فأقبلت فرسي، فلما رآها الناس قام محمد بن عمرو فقال: فرسي ورب الكعبة، فلما دنا مني عرَفته، فقلت: فرسي ورب الكعبة، فقام إليَّ يَضرِبني بالسوط ويقول: خذها وأنا ابن الأكرمين، وبلغ ذلك عمرًا أباه، فخشي أن آتيك، فحبسني في السجن، فانفلت منه، وهأنذا أتيتك، قال أنس رضي الله عنه: فوالله ما زاد عمر على أن قال: اجلس، وكتب إلى عمرو يقول: إذا جاءك كتابي هذا، فأقبِل وأقبل معك بابنك محمد، وقال للمصري: أَقِم حتى يأتيك مقدم عمر، فدعا عمرو ابنه، فقال: أأحدثت حدثًا؟ أجنيت جِناية؟ قال: لا، قال: فما بال عمر يكتب فيك؟ فقدما على عمر، قال أنس رضي الله عنه: فوالله إنا عند عمر، إذا نحن بعمرو، وقد أقبل في إزار ورداء، فجعل عمر يلتفت هل يرى ابنه، فإذا هو خلف أبيه، فقال عمر: أين المصري؟ قال: هأنذا، قال: دونك الدُّرَّة، فاضرب بها ابن الأكرمين، فضربه حتى أثخنه، ونحن نشتهي أن يضربه، فلم يَنزِع عنه حتى أحببنا أن ننزع من كثرة ما ضربه، وعمر يقول: اضرب ابن الأكرمين، ثم قال عمر: أَجِلها على صلعة عمرو، فوالله ما ضربك إلا بفضل سلطانه، فقال المصري: يا أمير المؤمنين، قد استوفيت واشتفيت، يا أمير المؤمنين، قد ضربت من ضربني، قال عمر رضي الله عنه: أمَا والله لو ضربتَه، ما حُلْنا بينك وبينه، حتى تكون أنت الذي تَدَعه، يا عمرو، متى استعبدتُم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا؟ فجعل عمرو يَعتذِر ويقول: إني لم أشعر بهذا، ولم يأتني، ثم التفت عمر إلى المصري فقال: انصرف راشدًا، فإذا رابَكَ ريبٌ، فاكتب لي.
وقد أمر الله تعالى عبادَه المؤمنين بالبِرِّ مع غير المسلمين والإحسان إليهم: ﴿ لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ ﴾ [الممتحنة: 8]، وتلك القاعدة في معاملة غير المسلمين هي أعدل القواعد التي تتَّفِق مع طبيعة هذا الدين ووِجْهته ونظرته إلى الحياة الإنسانية، بل نظرته الكلية لهذا الوجود، الصادر عن إله واحد، المتَّجِه إلى إله واحد، المتعاوِن في تصميمه اللدني وتقديره الأزلي من وراء كل اختلاف وتنويع، فليتحرَّ المسلمون العدلَ في معاملاتهم مع غير المسلمين، ولا يَبخسوهم من حقوقهم شيئًا، ﴿ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ ﴾؛ أي تعطوهم قسطًا من أموالكم على وجه الصِّلة، وليس يريد به من العدل، فإن العدل واجب فيمن قاتل وفيمن لم يُقاتِل؛ قاله ابن العربي.
ولقد أوجب الإسلام على أتباعه البرَّ مع الأبوين، والإحسان إليهما، والتعاملَ معهما بالحُسنى ولو كانا مشركين، ﴿ وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا ﴾ [الإسراء: 23]، وأمر الإسلام المسلمين أن يؤتوا ذوي القربى والمساكين وأبناء السبيل حقوقَهم ولو كانوا غير مسلمين: ﴿ وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا ﴾ [الإسراء: 26]، هذه أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما، تقول: قَدِمتْ عليَّ أمي وهي مشركة، في عهد قريش إذ عاهدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستفتت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول الله، إن أمي قَدِمت عليَّ وهي راغبة، أفأصِلُها؟، قال: ((نَعم، صليها))، وأنزل الله تعالى فيها: ﴿ لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ ﴾ [الممتحنة: 8].
هذا رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم يوصي أصحابَه بالقبط خيرًا؛ حِفاظًا على ذمَّتهم ورحِمهم، ويقول: ((إذا فتحتم مصرَ، فاستوصوا بالقِبْط خيرًا؛ فإن لهم ذمَّة ورَحِمًا))، وفي رواية لمسلم: ((ستفتحون أرضًا يذكر فيها القيراط، فاستوصوا بأهلها خيرًا؛ فإن لهم ذمة ورحمًا))، قـال النووي: وفي رواية: ((ستفتحون مصر، وهي أرض يُسمَّى فيها القيراط))، وفيها: ((فإن لهم ذمَّة ورَحِمًا))، قال العلماء: القيراط جزء من أجزاء الدينار والدرهم وغيرهما، وكان أهل مصر يُكثِرون من استعماله والتكلم به، وأما الذمة، فهي الحُرْمة والحق، وهي هنا بمعنى الذِّمام، وأما الرَّحم؛ فلكون هاجر أم إسماعيل منهم، وأما الصِّهر؛ فلكون مارية أم إبراهيم منهم.
ويروي عبدالله بن عمر رضي الله عنهما أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه رأى حُلَّة سيراء عند باب المسجد، فقال: يا رسول الله، لو اشتريت هذه فلبستها للناس يوم الجمعة، وللوفد إذا قَدِموا عليك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنما يلبس هذه من لا خلاق له في الآخرة))، ثم جاءت رسول الله صلى الله عليه وسلم منها حُللٌ، فأعطى عمر منها حُلَّة، فقال عمر: يا رسول الله، كسوتنيها وقد قلتَ في حلة عطارد ما قلت؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إني لم أَكْسُكَهَا لتَلبِسها))، فكساها عمر أخًا له مشركًا بمكة، قال النووي: وفي هذا دليل لجواز صِلة الأقارب الكفار، والإحسان إليهم، وجواز الهدية إلى الكفار، والمشركون بمكة كانوا أهل حرب.
أمر الإسلام أتباعه بالإحسان إلى الجار، وحرَّم إيذاءه بشيء ولو كان الجار غير مسلم، ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة؛ حيث كان له صلى الله عليه وسلم جار يهودي، وكان يعوده إذا مَرِض، وحدَّد رسول الله صلى الله عله وسلم حقوقَ الجار؛ فعن بهز بن حكيم، عن أبيه، عن جده، قال: قلت: يا رسول الله، ما حق جاري عليَّ؟ قال: ((إنْ مرض عُدته، وإن مات شيَّعته، وإن استقرضك أقرضته، وإن أُعوِز سترته، وإن أصابه خير هنَّأته، وإن أصابته مصيبة عزَّيته، ولا ترفع بناءك فوق بنائه فتَسُد عليه الريح، ولا تؤذه بريح قِدْرك إلا أن تَغرِف له منها)).
وذهب بعض أهل العلم إلى أن للمسلم تعزية غير المسلم إذا ما مات له قريب، ويقول في تعزيته - إن كان الميت غير مسلم - ما يجوز قوله، مِثْل: أخلف لكم الله خيرًا منه، وأحسن عزاءكم، ولا يدعو له بالأجر، ولا لميته بالرحمة؛ لأنهما ليسا من أهل الأجر والرحمة، وينبغي أن يَقصِد بذلك كله تأليف قلب غير المسلم على الإسلام، كما للمسلم أن يزور قبرَ غير المسلم للعِظة، ولا يُسلِّم عليه، ولا يدعو له، أو يستغفر؛ للحديث الذي رواه مسلم عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((استأذنت ربي أن أستغفِر لأمي، فلم يُؤذَن لي، واستأذنته أن أزور قبرها، فأذِن لي))]، وقد علم الرسول صلى الله عليه وسلم حقَّ العيادة لغير المسلمين، وحق إطعامهم عند حاجتهم إلى الطعام، يقول صلى الله عليه وسلم: ((فُكُّوا العانيَ - يعني: الأسير - وأطعموا الجائع، وعُودوا المريض)) ، حُكْم عام يشمل المسلمين وغير المسلمين، ويُثني الله تعالى على عباده المؤمنين الذين يُطعِمون الطعامَ على حبه المسكين واليتيم والأسير؛ قال تعالى: ﴿ وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا ﴾ [الإنسان: 9]، قال قتادة: "لقد أمر الله بالأسارى أن يُحسن إليهم، وإنهم يومئذٍ لمشركون"، وقال الحسن: "كان الأسارى مشركين يوم نزلت هذه الآية"]، وكان من عادة النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يَقري الضيف ويَكسِب المعدم من غير المسلمين، ويُعين على نوائب الحقِّ لغير المسلمين، هذه خديجة رضي الله عنها حين جاءها رسول الله صلى الله عليه وسلم أول نبوءته وهو يقول: ((زمِّلوني، زملوني))، قالت: والله لا يُخزيك الله أبدًا؛ إنك لتَصِل الرَّحِم، وتَكسِب المعدوم، وتُعين على نوائب الدهر، انظر هل كان ثَمَّ أحد من المسلمين دون رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعامل معه هذه المعاملة الحسنة؛ من صِلة الرَّحِم، وإكرام الضيف، وإكساب المعدم، وإعانة من أصابته مصيبة في ماله؟ وكان العهد أول رسالته ووحي القرآن إليه، ولم تَظْهر دعوته بعدُ، وكان صلى الله عليه وسلم يقوم بعيادة المرضى من غير المسلمين أيضًا؛ فعن أنس رضي الله عنه أن غلامًا ليهود كان يَخدُم النبي صلى الله عليه وسلم، فمَرِض فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم يعوده، فقال: ((أسلِمْ)) فأسلَم، وكان صلى الله عليه وسلم يُعامِل مُخالِفيه من غير المسلمين في البيع والشراء، والأخذ والعطاء؛ فعن عائشة رضي الله عنها قالت: "توفِّي النبي صلى الله عليه وسلم ودِرْعه مرهونة عند يهودي بثلاثين"؛ يعني: صاعًا من شعي، وكان صلى الله عليه وسلم يَقبَل هدايا غير المسلمين؛ كما ورد أنه صلى الله عليه وسلم قَبِل هدية زينب بنت الحارث اليهودية امرأة سَلَامِ بنِ مِشْكَمٍفي خيبر؛ حيث أهدت له شاة مشوية قد وضعت فيها السمَّ، وقد قرَّر الفقهاء قَبُول الهدايا من الكفار بجميع أصنافهم حتى أهل الحرب، قال في المغني: "ويجوز قَبُول هدية الكفار من أهل الحرب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قَبِل هديَّة المقوقس صاحب مصر"، وحق البِرِّ مع غير المسلمين يتمثَّل في الدعاء لهم من الله بالخير والرُّشد والهدى، ودعوتهم إلى ما فيه سعادتهم وكرامتهم في الدنيا والآخرة؛ أعني الإسلام، والتألُّم لما يعيشونه من الكُفْر والجحود والإلحاد، والتحرُّق له، وقد تجلَّى هذا الخُلُق الكريم والوصف الجليل في ذات الرسول صلى الله عليه وسلم، وجاء ذِكْره في الكتاب المبين: ﴿ فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا ﴾ [الكهف: 6]، وكان صلى الله عليه وسلم يَمُد يده إلى الله بالدعاء لغير المسلمين بالهداية للإسلام، لقد قَدِم الطفيل بن عمرو الدوسي وأصحابه فقالوا: يا رسول الله، إن دوسًا قد كفرتْ وأبَتْ، فادعُ الله عليها، فقيل: هلكت دوس؛ ظنًّا بأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما رفع يديه للدعاء عليها؛ فقال صلى الله عليه وسلم: ((اللهم اهدِ دوسًا وائت بهم) ، وجاء الأنصار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله، أخرقتنا نبالُ ثقيف؛ فادع الله عليهم، قال: ((اللهم اهدِ ثقيفًا))، فعادوا فعاد فأسلَموا، فوجدوا من صالحي الناس إسلامًا، ووجد منهم أئمة وقادة، ودعا صلى الله عليه وسلم أيضًا لأم أبي هريرة قبل إسلامها؛ فقد روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "كنتُ أدعو أمي إلى الإسلام وهي مُشرِكة، فدعوتها يومًا، فأسمعتْني في رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أكره، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أبكي، قلت: يا رسول الله، إني كنتُ أدعو أمي إلى الإسلام فتأبى عليَّ، فدعوتها اليوم فأسمعتني فيك ما أكره، فادع الله أن يهدي أم أبي هريرة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((اللهم اهدِ أم أبي هريرة))، فخرجتُ مستبشرًا بدعوة نبي الله صلى الله عليه وسلم، فلما جئتُ فصرت إلى الباب، فإذا هو مُجافٌ، فسمعتْ أمي خَشْفَ قدميَّ فقالت: مكانك يا أبا هريرة، وسمعتُ خضخضة الماء، قال: فاغتسلتْ ولبست درعها، وعجلت عن خمارها، ففتحت الباب، ثم قالت: يا أبا هريرة، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، قال: فرجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتيته وأنا أبكي من الفرح" الحديث.